الخميس، 24 يوليو 2008

الجزء الثالث من رواية ملاك الفرصة الأخيرة

فلسطين.
هكذا نطق ملاك الفرصة الأخيرة،وهو يلفُّ في الأرض،ويُمسك رأسه بجناحيه.
هذه ـ إذن ـ المعرفة، أنْ تعرف الاسم الحقيقي لشخصٍ ما؛ فتعرف الطريق إلى حياته،وخصائصه الروحية،فمعرفة الأسماء تعني اكتساب الإدراك.
قديمًا قالوا : إذا كان المرء مهتمًا بالعثور على الأسماء، فهو على الدرب الصحيح. ليس بمقدورك العودة مرةً أخرى إلى ما كنت عليه قبل معرفتك الجديدة.
فلسطين. هذه ـ إذن ـ المعرفة،أو المعرفة إذن هي تلك النقطة التي نريد دائمًا أن نلتقي عندها.
بكل تلك المعارف القاسية والملعونة ـ أيضًا ـ عن أنفسنا.
عندها ـ فقط ـ نشعر أنِّ شيئًا ما داخلنا قد تغيّر بتلك المعرفة الجديدة، لكن شيئًا ما داخلنا ـ أيضًا ـ يقول لنا بمجرد أنْ نُمسك بالمعرفة:
احتفظْ بي داخلَك.
فقط احتفظْ بي،ولا تُلقِ بي لغيرك؛ فأنا المعرفة الحقة،
ولسوف ترى ما أفعله من أجلك.
لكن الاحتفاظ بالمعرفة في الوعي شيءٌ صعبٌ، حينما تكون هناك شراكٌ وفخاخٌ على طول الطريق .إنَّها الثوابت مثل مدِّ البحر وجزره.
بينما تلتقي الفكرة تلو الفكرة في رأس الراوي،كان الملاك يردد اسم فلسطين كثيرًًا، وهو يرى الفتاة ولا يراها. إنَّه هنا وهناك في ذات الوقت.
بينما تبدأ حركة عربة الديزل الذي يُغادر الرصيف في مدينةٍ ساحليةٍ، يهبطُ طفلٌ من بطن أمه؛ فتتلقَفه الملائكة في مدينة القدس .
كيف تكون هناك،وهنا في نفس الزمن؟!
بينما الملاك يتقلَّب ذات اليمين،وذات اليسار ممسكًا في اسم الرجل،الذي أضاعه ولا يُحسُّ بأي شيءٍ يحدث أمام عيونه،وكأنَّه صار أعمى وأطرش وأخرس.
راحتْ الفتاة تقول،وهي تهزُّ جَنَاحيه بقسوةٍ في حضرة الرب وملاك الشرِّ، وتدافع عنه في المحكمة، التي أقامها الربّ،وغاب عنها ملاك الفرصة الأخيرة رغم حضوره بجسده قائلةً:
ـ لولاي ما حدث ذلك يا رب.
كانت تقول،ولا يسمعُ.
ـ ..........................
ـ نعم. لقد أُرسِلْتُ بحقدٍ وخبثٍ؛ كي أساعد في موت فلسطين أيها الملاك، ويُمكن لي أنْ اكشف الجريمةَ كلَّها وأُبرئ ساحتك أمام الله.
ـ.....................
ـ نعم، نعم ، لقد غُرر بي من قِبَل الملاك يهود أيها الإله،وأشهد أنَّ الخديعة كانتْ من خلف عيون ملاك الفرصة الأخيرة،هذا الغائب عن وعيه الآن .
ـ ...................................
ـ لا أُنكر ما قمت به، لكنني ما كنت لأفعل ذلك لولا أني بالفعلِ أحببته.
ـ...............................
ـ لا .. لا أتملص من جريمةٍ عظيمةٍ ، أنت يا رب أكبر من الادعاءات التي سمعتها، باستطاعتي أنْ أقول لك: لولا وجود يهوذا ما صُلِب الابن كمشيئةٍ لكَ، لكن ذلك لن يحدث،أنا تمامًا أكبر من تلك المهاترات التي قالها يهودا أحد الملائكة العاملين لدى إبليس كما تعلم يا رب.
ـ ...........................
ـ نعم، كاد الحبُّ الذي ملك علىَّ لُبَّي،ولا أنكر إني سعيت إليه بكل الطرق الممنوعة، سعيت إلى أنْ يتدمّر في الرحلة الخبيثة كما يقول هذا، فمنذ اتّحَدَتْ مصلحتي مع مصلحة هذا الملاك يهود ـ أو ربما شُبّه لي أنَّ هناك مصلحة بيننا ـ وحياتي صارتْ نارًا مستعرةً.
ـ .......................
ـ نعم يبدو لي أني أصبحت مثل القفازات الفارغة بدون أيادٍ داخلها كما تقول يا الله .
ـ انتبهوا جميعًا لما تقوله خطية، ولينبّه ملاكَ الفرصة الأخيرة أحدُ الملائكة، الذين يمرّون بالمشهد،أو شخصٌ ما جواره يُوقظه ،ويقول له :
إنها الآن ـ وأقصد الفتاة ـ صرحت أمامكم أنها خائفة من القوة التي تحملها.
ـ والله يا أخي لو تسكت،ولا تُحدثُ اللبس بكلامك السابق لربما قالتْ إنها تريد أنْ تعود حيث كانتْ،لا حيث أُريد لها أن تكون.
إنها تريد أنْ تترك ملاك الفرصة الأخيرة؛ ليتخطفه مصيره المحتوم، وتنأى بنفسها كما أظن يا هذا.
لكن أين القوة المروعة،التي كانتْ في حوزتها؟!
أين ذلك الحُبُّ،الذي تحدثتْ عنه منذ قليلٍ في وجود الربِّ ذاته؟!
يا أصدقاء،ليس من السهل واليسير التخلص من النور الملتهب المُسمَّى مجازًا الحُبُّ.
إنَّه كثيرٌ جدًا، كما تعلمون،ومن خلالِها فقط .
فقط من خلال حبِّ تلك الفتاة لملاك الفرصة الأخيرة، أصبح لوجودها ـ تلك الخطية ـ قيمةٌ ومعنى .
أصبحَ لاسمها معنى،وبوسعهاـ من خلال اسمها ـ أنْ ترى وأنْ تشمَّ؛
بل أمكن لها أنْ تتكلم وتحكي، وأنْ نستمع لها،كما حدث منذ قليلٍ.
الحُبُّ هو تلك القوى المدمرة والمروعة، التي لا تُغفرُ أبدًا.
وما قالتْه منذ قليلٍ،ولم يسمعْه الملاك، سوف يكون له حسابٌ عسيرٌ.
رغم إنني أعلم، وأنتقد نفسي حين أقول:
ـ إنَّه في وجود الحُبِّ، وفي وجوده فقط الكبيرـ كملاكنا الطيب ـ يصير مثل الصّبي.
السكران يصير ثَمِلاً وحكيمًا .
السخيف يُصبح،غبيًا مَن لا يضحكُ على نكاته المروعة.
من الآخر،غير المؤمن بالحُبِّ كافرٌ؛ فهو سفير المعجزات المخلص.
ولأجلِ ذلك قد عَرِفتْه جميع النساء منذ زمنٍ بعيدٍ، أبعد من حكايتِنا تلك.
ومن أجل ذلك تستطيع ـ وحدَها خطية ـ أو جميع النساء أنْ تستنشق الرائحةَ النفاذة لما هو جديدٌ في الدماء الساخنة عند الولادة.
تمامًا كما في الأجساد الباردة للموتى .
وكما بالفعل حدث مع خطيةَ، حين شمّتْ رائحة ملاك الفرصة الأخيرة.
ولكل تلك المعارف ما إنْ عاد الملاك إلى جادة صوابِه، حتى ربتتْ الفتاة على صدره، وقالتْ له بصدقٍ :
حان وقت العمل. لقد قرأت في عمل اليوم المخصص لك من قبل الله أنَّ هناك هاربًا في جبل لبنان ينتظر بعض الجنيهات والليرات؛ ليفكَّ أسر أمه من زوجها.
هيا بنا الآن إلى العمل وعندما يحين المساء،ستعرف كل شيء خُفي عنك.
وإلى أنْ يحين الأجل سوف أعمل معك.
* * *
سوف نُطلِق عليها خطية ملاك الفرصة الأخيرة،ولكن،لنعرف أنَّ أثمن شئٍ في روح تلك البنت، التي ركبت منذ قليلٍ على جناحِ الملاك،وتركا المشهد فارغًا إلا من الطيور وبعض الملائكة،الذين يروحون ويغدون،وذهبتْ به حيث جبل لبنان،هي الحدسُ أو البديهيةُ.
والبديهيةُ لمَن لا يعرفُ هي أداةُ الغوص، أو البلورة التي تستطيع من خلالها أنْ تَنفُذ إلى الرؤية الروحية الخارقة. إنَّها أشبه ما تكون بالأمثال الشعبية، التي تكشف جوهر الواقع.
لا ،هي ليستْ كذلك يا أخي.
إنها الولايةُ الصالحةُ.
هي ما تخبرنا حقيقة الأمر بالتحديد.
لا أنتَ ولا هو تقولان المعنى صحيحًا.المعني الصحيح أنَّ الحدس أو البديهية هي ما تقول لنا: ادخلوا إلى اليمين،أو ادخلوا إلى اليسار،بسهولةٍ ويسرٍ. حتى لا أطيلُ عليكم هي مَن تقول لنا ادخلوا هذا البيت بسهولةٍ ويسرٍ؛ كي نرى ماذا هناك؛أو لنعرف ما هو موجود،ٌ لمعرفته.
ولهذا قالتْ له خطية ببديهيةٍ مخلوقةٍ مع المرأة قبل أنْ تمتطي جَنَاحه:
ـ علينا الذهاب الآن، لنجدة المحتاجين والذين في انتظارك، فالقائمة طويلةٌ، ولسوف تمرَّ اليوم على مائتي ألف شخصٍ أو يزيد. أنت فرصتُهم الأخيرةُ للنجاة.حاولْ أنْ تُركّز في عملك فقط . لننس مأساتَنا معًا طيلة النهار،وفي المساء يكون الكلام طويلاً بيننا.
أتمَّ العمل الأول في سيمتريةٍ ودخل على الثاني، ثُمّ الثالث، لكنه أمسك بنفسه لمْ يعدْ يفرح بفَرَح الناجين،كما لم يعدْ ينتظره، ورغم أنَّ الوضع يبدو غريبًا بالنسبة للناجي أن يرى مع الملاكِ بنتًا ،صدرُها كأكواز الصنوبر إلا أنَّ أحدًا لم يُعلّقْ على ذلك، كما لم يشتك أحدٌ، بل إنِّ أحد الناجين كاد أن يلمس صدر الفتاة بعد أنْ أمسك بالكيس الأرجواني،لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
أقول لكم أكثر،حين دخل الملاك بصحبة الفتاة على الناجي السادس عشر تصوّر أنَّ صاحبةَ الملاك هي حبيبتُه المتوفاةُ، وكان كلّ همِّه أن يضمها إليه،ورغم حاجته الشديدة وحاجة أسرته لما في الكيس إلا أنَّه كان على استعدادٍ تامٍ للتنازل عنه بقبلةٍ وحيدةٍ على شفاه الفتاة التي تخيلها حبيبته.
الغريب في الأمرِ يا أخواني أنَّ الملاك لم ينتبه إلى كل حركات الناجي أو نظرات الذعرِ الواضحة في عيون خطية؛ بل الأغرب أنَّ الملاك لم يعدْ يُحِسُّ بها فوق جَنَاحيه أثناء تجواله بين البلاد وبعضها؛ للقيام بعمله في سيمتريةٍ شديدةٍ.
في الرحلة الأولى،وأثناء ذهابِه إلى الناجي في جبل لبنان،كانت أقلُّ حركةٍ من يديها على جَنَاحيه يكاد أنْ يتوقف؛ ليسألها عن أحوالها؛ بل وكثيرًا ما أبدى تخوّفه عليها،لكنَّها طمأنتْه.
فاطمأنَّ.
اطمأنَّ، حتى أنه نَسِى أنَّها معه.
حيث لا يجبُ أنْ تكون.
كما أنَّ أحدًا،كما ذُكِر لم يُعلّقْ على تواجدها .
كما أنَّ أحدًا لم يُعلنْ تضرره لمرآها على جَنَاحِ الملاك.
كما أنَّ أحدًا لم يُبلغْ الإله العالم العليم بذلك.
* * *

الاثنين، 12 مايو 2008

بسم الله خالق كل شئ الرحمن الرحيم

ملاك الفرصة الأخيرة

كانت مهمته الأولي هي مهمته الأخيرة أيضا، ظل طوال عمره لا يتعدى كونه ساعي بريد من قبل الله .ملاك طيب يذهب إلي رب عائلة ما لينقذه من الفقر أو الموت في اللحظة الأخيرة ثم يختفي.
في الحقيقة هو لا يختفي. هو فقط دائم الذهاب إلي أسرة جديدة في شتي أنحاء المعمورة. ومن هنا أحس هذا الصباح بالكسل، هو لم يعرف معنا هذا الكسل من قبل حتى يمكننا أن نقولها ونحن متأكدون من تلك الحقيقة .
لكن هذا ما حدث .
لكم يفرح وهو يرى فرح الإنسان حين ينتشله هو وأفراد أسرته من الجوع أو التشرد أو الموت الذي علي بعد فرسخ ،لكنه ابدأ لم يعرف كل أفراد الأسرة الناجية ،ولم يكن في الحقيقة يشغل رأسه بذلك.
الفرح موجود دائما.
هكذا استمع ملاك الفرصة الأخيرة إلي ما يدور في رأسه. رفع جناحيه في الهواء بتكاسل واضح وأضاف وهو يهز رأسه وكأنه يؤكد علي فكرته بلسانه
: بعد ساعة أو يزيد قليلا سوف يكون هناك رب أسرة ، مليئة بالذعر والخوف عيونه بقرية ما لا اعرفها،لابد ستتلألأ الفرحة في عيونه عندما أدركه، وعند ذلك لابد سوف أرى تلك الفرحة.
لينتظر الفرح قليلا ريثما أفرد جناحي في هذا الصباح الجميل.
هكذا همس الملاك لنفسه.
وهكذا فعل .
مد جناحيه تحت سماء فاتنة تشبه كثيرا امرأة الأحلام .
هل تعرفون امرأة الأحلام التي طالما برع الشعراء في وصفها؟
تلك المرأة يقولون عنها أنها ذهبت ذات مساء إلي البحر وعرت ثدييها ـ اللذين يشبهان كوز الصنوبر ـ و غنت بصوت رائق وحنون لحبيب اليوم الذي لابد موجود في انتظارها كالعادة.
لكن مالا تعرفه تلك المرأة أن البحر قد اختطف حبيبها قبل بلوغها الشط بلحظات.
يا لهول ما يخبئه القدر لامرأة الحلم.
لقد استمع إليها البحر أمس للمرة الأولي.
وللمرة الأولي أيضا ظلت روح البحر متقدة طوال الليل
لم يعرف كل علماء الطبيعة أن البحر حين هاج وماج كان ذلك من أجل أنه أحب امرأة الحلم ـ
لقد ظلت روحه متقدة مذ ذاك.
هاجت مشاعره الحزينة ,فهاج الماء.
عشق قلبه امرأة الحلم ،فأحب الماء المرآة .
ومن هنا أراد أن يسعد سيده وصاحبه البحر.
أن يشفي قلبه الذي اتقد مذ أمس .
لم يجد الماء أمامه حلا غير سحب الحبيب .
لقد أراد أن يوفر الأمان لصاحبه .
نظر البحر إلي المرآة بعشق ولم يرخها .
كانت تغني للحبيب الذي لابد تأخر لسبب ما لم يشغل بالها في حينها .
ظن البحر أنها تغني له هو ،فمد يده وضمها إليه بقوة .
يقول بعض الناس أنهم كثيرا ما استمعوا إلي غناء المرأة الحلم كثيرا في لحظات تقبيلهم لمن يحبون أمام البحر وقت الغروب.
لكن مالا يعرفه الناس أن الماء كلما حنّ إلي صوت امرأة الحلم الحقيقي انتظر إلي أن ينام البحر ـ ذلك يحدث لا ريب ـ ولا يلزمه الاستماع إلي صوتها العذب إلا أن يقرب مابين جثة الحبيب وروح المرآة ،وحين ذلك يهتز طربا وتحدث الأعاصير.
ربما يكون الماء كاذب ،فهو أبدا لا يستقر علي شئ .
لم يكن ليخطر علي بال الملاك أن يحس بتلك السعادة وهو يهمل عمله .لكن هناك أشياء كثيرة وجب علي الراوي فك طلاسمها لكي نستطيع تصديق أن ملاك الفرصة الأخيرة كما يُطلق عليه أصدقاؤه قد تكاسل عن وظيفته .
وللمتعطشين لإجابة هذا السؤال أقول لهم أن الراوي قد علم أشياء كثيرة تتعلق بحياة ذلك الملاك منه ذاته .
إنني سوف أخبركم بآخر سر قاله لي وهو أنه ـ ملاك الفرصة الأخيرة طبعا ـ للمرة الأولي طوال عمره الذي لا يعلمه إلا الله قد حلم بالفتاة التي كانت ممسكة بيده أبيها المشعث الشعر وهو يمنحه الكيس الأرجواني ليلة أمس.
للمرة الأولي منذ آلاف السنين يحلم ويتذكر حلمه.
لا .ليس كذلك يا أنت.
هو للمرة الأولي يرى وجه أحد كان في انتظاره.
( كيرلياسون) كل من يؤمن به لا يهلك.
لأنه لم يرسل الله ابنه الوحيد إلي العالم ليدين العالم.
بل ليخلص به العالم.
قالها ملاك الفرصة الأخيرة المتغيب عن عمله وعقله يراجع نظرات الفتاة.
راح يستجمع رائحتها الذكية وهو يحرك جناحيه علي العشب الأخضر ويغمض عيونه ويتحرك أنفه حركات سريعة في البداية وكأنه يستجمع رائحة ما ، ثم ببطء، ثم ببطء شديد.
وبشوقه الذي لمحه علي وجهه ملاك التفاصيل الصغيرة الذي كان في الطريق إلي عمله،كاد يقف ،ويسأله عن معني تلك النظرة المرسومة علي فمه ووجه،ويسأله أيضا لماذا هو متغيب عن عمله ،لكن ذلك الملاك ـ ملاك التفاصيل الصغيرة طبعا ـ كان علي عجلة من أمره فآثر السلامة ومضى تاركا المشهد دون أن يؤثر فيه إلا برائحته العبقة ،رغم أن المشهد قد أثر عليه تماما .
للناس أن تعرف أن المشهد قد ملك عليه لبه ،هكذا يعلق أحد الرواة .كانت النظرة المرسومة علي وجه صديقه الطيب ملاك الفرصة الأخيرة تنتقل معه من عمل لعمل حتى زُلت قدماه مرة ولم ينتبه . لقد أخذ النظرة من مكان إلي مكان ثان ،ثم مكان ثالث،وهكذا دواليك حسب طبيعة عمله.
اختلطت رائحة الفتاة برائحة ملاك التفاصيل الصغيرة ففتح عيونه .
لم ير شيئا هنا أو هنا ، أو هناك أيضا حيث دارت عيون ملاك الفرصة الأخيرة بأرجاء المروج الخضراء والجداول والماء السلسبيل.
عاد بعيونه إلي السماء وراح يتشمم ما علق في خياشيمه من رائحة للفتاة.
دقق النظر فرآها بازغة من الأفق تماما كما كانت حين رآها في المرة الفائتة . كانت التفاصيل ترتسم أمام عينيه للمرة الثالثة في السماء إثر حركتها. وكأن الله أراد أن يريه ما رآه في الحقيقة ظهر أمس.
ظُهرُ أمس, يا حقيقة ظُهر أمس تعال.
لقد تذكر الآن تفاصيل كل شئ وانبلج الصبح.
لقد أنجز عمل البارحة علي خير وجه . لم تكن الفتاة فيه . كانت تقف بالقرب من أبيها ظُهر أول أمس .كان يقولها وهو يعتدل بظهره علي العشب اللين ،يا لها من مفاجأة .
أضاف وهو يصوب نظرته علي الفتاة في السماء .
كانت كما كانت .لكن شيئا ما مختلفا دخل المشهد في رأس الملاك .كانت الفتاة تعيد تمثيل المشهد . نعم ،ذلك حقيقي تماما .لكنها كانت وحدها .
يا.............الله .
قال بصوت عال فرددت الجوقة كلها بمائها وأحيائها وكل ما يحيط بالأبصار.
الآن تذكر أنه حين استيقظ بعد حلمه منذ ساعات فكر وهو يعيد الحلم لنفسه. بل وتمني. أن تكون هي محيط المشهد كله .فكر أن يراها هي فقط . فكر ألا يشغل فكره بمأساة الأب،أو حتى رؤيته للفرح يتلألأ .تمنى أن يكون وجودها ضروريا للمشهد .
لا يجوز لتلك الفتاة الحزينة الجميلة أن تكون مجرد التفاتة عابرة منه هي ما تجعله يراها كما حدث.
قال أحد الحكائين واصفا وجهة نظر الملاك ببساطة قائلا :كان وجود الفتاة في المشهد وجود إرث عين ،موجود لمليء فراغات المشهد، وربما تؤتي أكلها في التشويق والإمتاع والمؤانسة .تماما كأشعة الشمس الطافحة حرارة علي المشهد .ببساطة أكثر كما يقول آخر:لم تكن هي كابتسامة الأب بعد حزنه الطويل ،ولا هي الكيس الأرجواني الحامل للمكافئة . إنها أقرب ما يكون إلي الظل ،أو ما يدخل محيط بصرك دون أن يدخل نظرك.
لكنها كانت وهو لا يعرف ذلك حتى الآن علي الأقل،وربما يتفاجأ بحدسي.
لقد كانت أقرب ما تكون إلي نقطة الماء التي سقطت في فمه حين ذلك بعد أن أحس بالهجير القاسي .
لقد كانت ضرورية له ليكسر ذلك الفرح الدائم العائش فيه ليل نهار عكس زملائه الذين طالما حسدوه وقالوا بعد انصرافه مباشرة :
ـ محظوظ صديقنا ملاك الفرصة الأخيرة ,دائما سعيد وفرح.
لأنه يعطي الفرصة الأخيرة لمن تقع له مصائب الدهر ،ولا يرى غير الفرح بمجرد أن يمد جناحيه بالكيس الأرجواني ،فلما لا يكون سعيدا ونحن المنغرسة عيوننا بالحياة ومعاناتها قبل حضوره.
علق ملاك التقارير الوافية الجامعة .
ربما يخالفني ملاك الفرصة الأخيرة الرأي الآن ويعلن أنه ما أحبها قط،ولا خطر علي قلب ملاك.
وربما أضاف:أنها هي،وهي بالذات،القشة التي قصمت ظهر البعير.
لكنه قط لن ينكر أنها قد أضجت مضجعه.
مد جناحيه في السماء وأمسك بها ،قربها ببطء إليه وثبتها بين جناحيه،ثم دنى ،فتدلى ،فمد فمه ولثمها علي خدها.وحين ذلك.
وذلك رأس الخيمة يا أعزاء.أنها لحظة اكتشاف المأساة التراجيدية .
أن صاحبنا الطيب ملاك الفرصة الأخيرة فيها.
لا إن ملاكا هو كل شيء فيها.
لقد ذكرته الفتاة بعمله.وكيف غاب عنه .
لقد كان في انتظاره منذ ساعة أو يزيد بالخليل أب مكلوم في بيته،وفي أسرته ،وفي وطنه كله،عند ذلك تذكر ملاكنا أنه لم يذهب إلي عمله.
دار في الأرض عدة دورات هو يصرخ ويقول: لقد أضعت شخصا ما في الخليل، يا لا مأساة ما صنعت يا لله.
لقد أضعته تماما ،وحطمت حياته وحياة أسرته. قطعت عليه طريق النجاة الوحيد للتغيير والإنصاف ككل الناجين الذين أُدركهم في اللحظة الأخيرة.
وللملاك أقول لأنه لم يعرف بعد.
بعد معاناة لا يعلمها إلا الله ،ولم تكن ابدأ لتخطر علي قلب ملاك مدرب علي العمل والعبادة مثلك يا صديقي،أن ما أضعته كان رب أسرة مكونة من أحد عشر من الأبناء والزوجة والأم والحماه والحمي والأقرباء والأصدقاء وأشياء كثيرة لو ظللت أعددها لن ننتهي قبل صياح الديك للمرة الرابعة وإنكارنا جميعا للمسيح.
حين ذلك أنزل الفتاة بين الورود . لم تكن لمسة ناعمة وخفيفة مثل تلك التي فعلتها الفتاة لتخطيء باب القلب ابدأ .
وأنتم جميعا شركاء رومانسية لو كانت الظروف مغايرة،لكن الملاك كان جد حزين،والبنت أيضا حتى لا يلومها لائم ،كانت حزينة .
لقد تأكد لها وهي تراه يلف حول نفسه ويزعق ويئن ويسجد ويركع أنها بالفعل تحبه.
ورغم علمها أنها كانت ألعوبة في يد الشيطان ـ كسابقيها ـ الذي أستطاع أن يدخل حيث لم يُنتظر ، ألا وهو قلب ملاك الفرصة الأخيرة.
حيث خلقتني أكون .لا حيث أشاء.
قالت الفتاة وهي تحاول البحث عن مبررات تعينها علي تحنين قلب الرب.
اصمت يا أنت .من قال لك أنها تقصد بقولها السابق ما علقت به؟
من قال أنها لا تحب خطيئتها ؟
بل وفرحة بها يا هذا وأنا أؤكد لك ذلك.
من قال لك أنها تطلب الغفران من أجل تلك الخطيئة؟
هل تنطق بما لا يعلمه إلا الله وهي؟
هلوليا . هلوليا .
أستغفر الله العظيم ،استغفر ربك العلي العظيم يا أنت .استغفر العفو الغفار يا رجل .
ولكي تعرفون جميعا أن ذلك الرجل الذي تدخل في الحكاية منذ قليل كذاب. أقول لكم ما قالته الفتاة لملاك الفرصة الأخيرة.لقد وقفت أمامه وقالت:
ـ هل تعلم أيها الملاك.ربما ظللت أعيش مع أبي هناك لسنوات عدة وطويلة أيضا،ربما كنت تنعمت بالخير الذي منحته إياه أمام نواظري,بل ربما أكثر ، كنت سأتزوج شابا جميلا جدا،ورما يكون فيثاغورس ذاته،ما العائد علي؟ قصور منيفة.خدام ؟.
أبناء سعداء ؟.
في النهاية زوجة فيثاغورث.يا لهذا الهراء.
حيوات أُخر رائعة يمكن لي أن أصف لك.لكنني ابدأ يا ملاكي الطيب.
لن أكون حيث أشاء .
وحيث شاء الله الملك الحق .
حياتي أنا أحلم بها معك.
ثم مرت بيديها علي زغب آخر في جناحه وأضافت وهي دامعة العين :
ليغفر لنا الله جميع خطايانا التي فعلناها دائما كما أراد هو.
لا حيث نشاء.
حيث نحب.
أنهت جملتها ثم دنت منه وعيونها ملئ بالدموع والحب والشوق والذعر والخوف والرجاء والأمل . ربما كادت أن تكون قبلته.
وهو ـ ملاك الفرصة الأخيرة ـ لا حيث خلق.
ولا حيث يكون.
وحيث شاء.
ومن هنا لم يحس بالقبلة أو بملمس الشفاه ،فقط سحب رأسه من بين يديها وأدار رأسه في الفضاء دورة فدورتين،ثم زاد في السرعة، دورة فدورتين.
ثم فرد جناحيه في الفضاء وكاد أن يطير لولا سؤال في القلب انبلج.وخرج من لسانه.
ـ ما اسم الرجل الذي كان في انتظاري منذ ساعة أو يزيد في الخليل؟
حاولت إبعاد عيونها عنه،لقد كانت عيونه ملونة بأحلى ما يريد الناظر.
هزها جناحاه فعادت إلي الكارثة ،فعلمت أن الأرض مستقر ومتاع ،فهبطت بعيونها إلي عشب الجنة الأخضر, ورددت بصوت الذليل.
ـ اسمه فلسطين.

كلما تحدثنا مع أنفسنا ،كلما تضاءل الأمل في وجود فرصة للنجاة . من المنطقي تماما أن يتساءل المرء عن المبرر وراء تلك الأحداث القاسية المروعة التي نمر بها . لماذا هذا الظلام الدامس؟
إننا مثل نبات الصبار،ذلك الذي نضعه علي شواهد قبور ذوينا الذين رحلوا .
ذلك الصبار الرقيق الجميل دائما ما يعيش علي حواف القبور،تدوسه الأقدام أو تخربه يد الأطفال .
مليئة بالثقوب دائما أورقه.
بعض العشاق يكتبون كلمات الحب الأكيدة علي ورق الصبار.
يا لهول ما يفعلون بالنباتات الحزينة، تلك التي تصاحب الموت والأجساد البالية.
إننا نعيش وكأننا في الحكايات الخرافية، وفي انتظار الأحداث الدامية التي تملأ جميع الأساطير.
لكن مهما بلغت فوضي تعاقب الأحداث ، ثمة دائما فترات فاصلة، توجد من تلقاء ذاتها لنتحدث فيها مع أنفسنا .
البعض منا يمكن أن يري حلما رائعا.
أتدرون أنا واثق من أني سأكتب شيئا فريدا هذه الساعة .
سوف أبدأ من بداية الخلق .
أنا واثق من أني سأصنع حلما رائعا هذه الليلة .
ليس حلما واحدا وإنما جمهرة منها.
هيا بنا الآن نمعن النظر ونتأمل الصور والخيالات المنبعثة من دخان حلمي الأول.
تقول الحكاية أن الله بعد أن خلق الملائكة وإبليس و خلق العالم وآدم اجتمع بكل منهما علي حدة . وقف كبير الملائكة إسرا فيل في حضرة صاحب العرش العظيم خاشعا متذللا من عظمة رؤية وجه ذي الجلال والإكرام.
طلب منه الخالق أن يجلس علي الكرسي ليعطيه أهم نصائحه .
وقال له:
عدل السلطان يا إسرافيل خير من خصب الزمان .
لذلك يجب أن يكون الملك برعيته شفيقا ، متجاوزا لمسيئهم ،متلهفا لدعائهم ،مشغوفا بمحبتهم،محسنا لمحسنهم،قائما بحفظ مأمنهم ،في دينه متينا،وعلي الناس أمينا،سديد الفكر،قويم النظر،صدوق النطق،ظاهر الصدق،دائرا مع الحق،يقظان مراقب،في خواتيم أمره والعواقب،عادلا بين المتخاصمين ،شفيقا علي الخاص والعام،ثابتا في النوازل، ،مشغولا بتهذيب نفسه ،متذكرا يومه في غده وأمسه،متميزا بالشمائل المرضية علي أبناء جنسه،واضعا الأشياء في محلها،متفحصا بنفسه عن جلها وقلها،مقيما كل أحد في مقام لا يتعداه،ومنصب معلوم لا يتخطاه،حتي تستقيم بذلك أمور المملكة،وتصان من الوقوع في مهاوي التهلكة،ويطمئن خاطر مخدومه،ويركن إليه في منطوق قوله ومفهومه، وحسبي قولي يا كبير الملائكة في سيد الخلق الذي سوف أختم به الرسالات : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.
بعدها دخل آدم ووقف موقف الملاك وسلم علي رب العباد وجلس أمام عرش التواب واستمع إليه وهو أواب فقال الله حين استقر بين يديه :
لصنع حواء يا آدم شيء عظيم .
شيء مختلف عنك تماما .
زبدة القول يا آدم أنني لابد لي أن أصنع صنواً فريداً .
صنوا ممتلئي بالازدواجية الغامضة والخارقة ،ممتلئي بالمثابرة والجلد والمقدرة والقدرة علي الاستمرار والظهور والاختفاء والذهاب والعودة والسعي .
شيئا مدهشا وأصيلا .
عليك أن تعرف كيف تقدر عليها . وتقدر هي عليك .
هل تعرف كيف تستطيع هي وأنت في كوخ واحد .
أنت يا آدم جندي أجير في المعركة ،وهي ملكة بالبيت.
ستؤجرك أشياء كُثير ،بداية من العرض والمال والأخلاق والأطماع والأماني والأمنيات.
كل شي خلقته يا آدم ليكون لك سيكون أيضا عليك .
لكن حواء يا آدم ستكون كل الأشياء مجتمعة،ولهذا ستكون صنوك الذي يكشفك أمامك.
هل أخبرك يا آدم ما أخفيت عنك؟
إنها ستكون أمك وامرأتك وابنتك.
هل تريد أكثر؟
باستطاعتي أن ألونها لك كيفما تريد .
أنظر ما أخلقه أمام عينك.
هذه يا أدم تسمى امرأة اللبن الرايب؟
مد يدك وتحسس ملمسها .
ماذا في فمك الآن؟
لاشك لدي لبن رائب .
هل ذهب خيالك إلي ذلك؟ بمجرد أن تتحسس جسدا يسقط من بين لعابك لبن رائب ؟
انتظر قليلا ،هذه أخري تسمى امرأة الزعتر الأخضر .
هل أدلك علي امرأة التفاح ، البرقوق الأحمر والأصفر ،امرأة الأحزان،امرأة الأرغول.
هل تعرف امرأة الحنطة؟
هي امرأة مليئة بالرفق والحنان والعذوبة والجمال.
علي قوتها أن تنسحب وتخلي الطريق للين العريكة .
علي صنوك يا أدم أن تكون أشياء كثيرة في لحظة واحدة .
عليها أن تطيب الجراح وتنزع خيوط الشر الحريرية من منبع الروح .
عليها أن تحتاط للغل البازغ .
عليها أن تنتبه إلي جيوش الحقد الطامحة إلي سلب العقل لديك. عليها أن ترعى ثدييها جيدا، منهما الإحساس وفيهما التغذية .
ما أحلي امرأة الأحلام يا آدم .
أما امرأة التوق ، فلابد لك أن تتحس كل خرائطها .
تلك المرأة تشع روحها يا أدم حينما تشد وتر الكمان أو تمسك بزهرة برية .
اسمع يا آدم حتي انتهي منك أقول لك : الرقة والعذوبة، اللطافة والوداعة والإمتاع . كل ما علمتك إياه من صفات وأسماء ستراه في عمل يديّ ، حواء هي عمل يدي ، أجمل وأرق وأبدع ما خلقت ،ستراها .
في ممشي الحديقة وحواف الزهور ستراها .
أقول لك يا آدم : ارع حواء كرعايتك لبستانك.
هي في شجر الكرز وفي الكمثرى والليمون . هي فكرة أو صورة أو أرض أو جبل .
هي ماء الوديان وهي الترقرق في الغدران .
هي في أسماك الزينة النائمة في القنوات المحفورة بيديك .
هي في حوض الزرع وفي الضرع وفي مناقير الطير .
أقول لك : حواء هي القدرة علي الوقوف ومواجهة الأهوال المرعبة بدون ارتعاشة.
من ذرة خوف واحدة عند الوضع خلقت ليكون صنو لك.
حواء يا أدم مثل كلب مدرب علي رهافة السمع والتشبث والعناد والتنقيب تحت الجدران والكشف والمطاردة واسترجاع ما فقد منك أنت يا أدم.
لا تفكر أنك خلقي الأعظم .
أنت نصف الكوب الفارغ أقول لك .
وأقول لك إن حواء هي نصف الكوب الفارغ أيضا.
أنا المملئ الممتلئ.
بيدي أنتما عرائس أقلبكما حيث أشاء ،وحينما أشاء،وحيثما أشاء.
يا آدم اعرف أن حواء ستعيش في الحياة بأرجل دجاجة ،ستلف وتدور كالدوامات لتكون صنوك، أنت مشعل النار عند البحر وفي البر وفوق سمائي وتحت بحاري وهي تغني لابنتك الصغيرة وترعي البقرة وفناء البيت من الذئاب .
تعين خيال الحقل علي الدوران حتي يكفي غلة بيتك .
انظر يا آدم ماذا تصنع،حتي فرخ البط القبيح يجد غذائه مما يسقط من يديها وهي تضع إبريق الماء أمام الكوخ لربما مر عابر للطريق . ستكون طيبة وخاضعة ولينة العريكة حين تريد وكيفما أرادت .
لكن إياك وجرح الغريزة عند حواء؟
وأقول لك في البداية أن غريزة حواء هي كل حواء؟ أو حواء هي الغريزة متمثلة.
لا تكتمل إلا بالمنح والاختيار والتدبر والأمومة.
لتعرف يا آدم إني خلقت صنوا لك لتعرف الفرق بين القدرة علي الحياة ؟ والسماح بالحياة؟
إن الجميع سوف يقدر علي الحياة طالما وجدت حواء.
لتعرف أنه لولا وجودها لكنت مسموح لك بالحياة فقط .
أن الفخ المنصوب لك من الفخ المخلوق منك ؟
لن يحل إلا بمعرفتك من تشاركه الحياة .
لك أن تعرف في النهاية أن أرداف امرأة كبيرة لابد يحتمي خلفهم أطفال صغار .
وردف المرأة دائما عريض لأنه الركيزة التي يتمحور الجسد حولها،من أعلي وأسفل،هما باب الجسد،الوسادتان الطريتان لك، ولذلك أقول لك إياك من جرح الغريزة ؟ وهو التطبع مع غير الطبيعي.
لحظتها مالا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر علي بال بشر تري، ولسوف تري بأم عينك.
أقول لك في النهاية عليك يا أدم أن يكون ما لديك أكثر من مبلغ الإيجار لكي تؤسس بيتا جديدا .
أكثر كثيرا من الأموال؟ أن حواء تحتاج إلي براعة فائقة في الاستعطاف و المؤانسة.
ليس المهم خشب الأرضيات، ولا ألواح الجدران أن تكون من خشب السرو ، أو تكون خزائن الكتب رحبة إلي حد يمكن تحوليها إلي أسرة جدارية للنوم، ربما حضن بصدق في كوخ بقرب البحر يحول القش إلي أسرة من ريش النعام.لا تخف علي المفارش الحريرية ذات اللون الوردي،ستصنعها حواء يا أدم .
أنت الجندي وساعي البريد وصانع الأحذية وخيال الحقل وهي بائعة لعب الأطفال وزارعي الورود والظل النائم علي الجدار وطاقة النور وما هو منظور وما هو مخفي.
لتعرف يا آدم أنه عهد ووعد بالقوة المبدعة التي سوف أخلقها لك.
آخر ما أقوله لك يا آدم عن النساء أنهن جميعا ساحرات العالم،فمبجرد حضورهن يتحول الرجال من عابسين ومتجهمين إلي مبتسمين وبشوشين،أنهن يخففن من حزن الحزانى ،أن قدما تفقدها في الحرب ستعود بمجرد مرور يد حواء علي الجزء الباقي.وهكذا الحياة كلها .حواء مثل زهرة عباد الشمس، تتحول باتجاه الشمس.

الجمعة، 2 مايو 2008

بمناسبة عيد ميلاد حبيب الفاسدين الثمانين

بمناسبة عيد ميلاد حبيب الفاسدين

ذكر أهل التاريخ ،أيها الأعالي الشماريخ ،أنه في ممالك منف ،ملك يحكم شعبه بالنار والحديد ،صدغ عماله مكشوفا وعريض،وشمائلهم كالمراحيض ، أفواه مسالكه كثغور الغواني بشنب الظلم والخوف والتوريث داني ،وله ولد يقال بعد حسني جمال، صاحب عز وصباحو كدب وكمال،وجهاد وعودة ومن بعده أسماء ،يعلمهم الله ذو الجلال والزيادة في الأسعار،مدني الأباعد ومبعد الأدنى الأقارب ، لافرق لديه بين المرافق والمنافق، والمصارم ـ صاحب صرمية ـ والملاصق،لا خبر الرحيق من الحريق ،ولا فرق لديه بين العدو والصديق،يضع القط في غيرأخباره ومحله، وولي نظيف في غير الجرابيع أهله،وذلك لعدم تدبر،أو فساد تصور،أو نشور رفيق،أو فقد مرشد وشفيق، أو لغرض في نفس ابن حسني يطويه ،من لجنة السياسات ذات العمة و الاسانسيه ،ولما كان الزمان لابن آدم مهمما علا شأنه قاهر،وبطون الحكام قبل الكلاب علي مناقر الدواد باقر ،استدعى ملك الحديد والنار،ولي عهده السيد المختار،وأمام كبير الغاندفة الأخيار، الذي يعمل كأحسن وزير بالحنتفة ،في عصرالليمون والشنكفة ،وشنكف لمن لا يعلم هي كلمة استعملها السادة الأتابك،في معركة مرج دابق ،تركية المنشأ والمخلوف ،ويقال أنها صنعت في منوف،أصلها ثابت مكانك.يعني متتحركش للقطر ياكل رجلك،ولذلك سمي العصر الميمون بعصر الشنكفة علي القفة المصرية لمولانا الشاذلي ابن عز الله ومعدنه الشريف جدا والمسرور علي الآخر والغالي لدنيا والمحجوب عنا والمنهوك منا ،والمدهوك فينا وحبيب العدل أساس الشرطة والأرض بتتكلم والي وعهد تراثنا في طيز حطين ،الأرض الأرض الأرض بتتكلم عبري وأجري بسرعة ياواد ياحسين ،وعهد الملك الصالح جاي والأرض الأرض الأرض .عهد الملك إلي كبير الغنادفة بابنه المختار ،أظهر الكبير الود والترفق ،والتملق والترقرق ،والتلهف والتأرق،والتأسف والتحرق،وبكى وتأوه وشكى، وتذلل وتمسكن،حتي تمكن،فلما قضى الملك نحبه،وأجاب نداء ربه،صعد ابنه مكانه ،وكان وحيدا أعمي لا يجد دليلا،ولا يهتدي سبيلا،ولا يعرف مفرا من مقيما، ولما كانت الليلة الأولي في حكم ولي الإرث ،هجمت جيوش الليل،وأقبلت السباع من الوادي كأنها السيل، وقصدت الوحوش والهوام،مالها من مأوي ولا مقام،وعوت الذئاب وزأرت الأسود وهمرت النمور،فساورت ابن الملك الهموم،وأورثته أصناف الغموم،واحتوشته المخاوف والوجوم،فلجأ إلي كبير حراسه ذو الجناب، جناب لا يخيب قاصده،ولا يصدر إلا بنيل الأمل وارده، وأمره بقتل شعبه جميعا، مرت برهة من الليل والملك مازال يسمع الزئير المختلط بزعقات الموت الخارجة من أفوه القتلى . فأنشد الملك،ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ،بصبح وما الإصباح منك بأمثل .فلما أصبح الصباح ،ونادي مؤذن السعد" حي علي الفلاح " تيمم ابن الملك لصلاة الجنازة علي الملك ،فأحاط به نازل الهلك،وفي الحال خر الملك الجديد ميتاعلي طريق الملك،وسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.

سعيد نوح

مايو 2008

الثلاثاء، 15 أبريل 2008

الجزء الأول من رواية " ملاك الفرصة الأخيرة "

فلسطين.

هكذا نطق ملاك الفرصة الأخيرة وهو يلف في الأرض ويمسك رأسه بجناحيه.

هذه إذن المعرفة ؟ أن تعرف الاسم الحقيقي لشخص ما ،تعرف الطريق إلي حياته وخصائصه الروحية،فمعرفة الأسماء تعني اكتساب الإدراك.

قديما قالوا إذا كان المرء مهتما بالعثور علي الأسماء فهو علي الدرب الصحيح. ليس بمقدورك العودة مرة أخري إلي ما كنت عليه قبل معرفتك الجديدة.

فلسطين. هذه إذن المعرفة ؟

أو المعرفة إذن هي تلك النقطة التي نريد دائما أن نلتقي عندها.

بكل تلك المعارف القاسية والملعونة أيضا عن أنفسنا.

عندها فقط نشعر أن شيئا ما دخلنا قد تغير بتلك المعرفة الجديدة.

لكن شيئا ما داخلنا أيضا يقول لنا بمجرد أن نمسك بالمعرفة :

احتفظ بي داخلك.

فقط احتفظ بي ولا تلق بي لغيرك. فأنا المعرفة المحقة.

ولسوف ترى ما أفعله من أجلك.

لكن الاحتفاظ بالمعرفة في الوعي شيء صعب حينما تكون هناك شراك وفخاخ علي طول الطريق.إنها الثوابت مثل مد البحر وجزره.

بينما تلتقي الفكرة تلو الفكرة في رأس الراوي، كان الملاك يردد اسم فلسطين كثيرا وهو يرى الفتاة ولا يراها . إنه هنا وهناك في ذات الوقت .

بينما تبدأ حركة عربة الديزل الذي يغادر الرصيف في مدينة ساحلية، يهبط طفل من بطن أمه فتتلقفه الملائكة في مدينة القدس .

كيف تكون هناك؟ وهنا في نفس الزمن؟

بينما الملاك يتقلب ذات اليمين وذات اليسار ممسكا في اسم الرجل الذي أضاعه ولا يحس بأي شيء يحدث أمام عيونه، وكأنه صار أعمى وأطرش وأخرس. راحت الفتاة تقول وهي تهز جناحيه بقسوة في حضرة الرب وملاك الشر وتدافع عنه في المحكمة التي أقامها الرب، وغاب عنها ملاك الفرصة رغم حضوره بجسده قائلة :

ـ لولاي ما حدث ذلك يا رب.

كانت تقول ولا يسمع.

ـ ..........................

ـ نعم. لقد أرسلت بحقد وخبث كي أساعد في موت فلسطين أيها الملاك ويمكن لي أن اكشف الجريمة كلها وإبراء ساحتك أمام الله .

ـ.....................

ـ نعم، نعم ، لقد غُرر بي من قبل الملاك يهود أيها الإله،وأشهد أن الخديعة كانت من خلف عيون ملاك الفرصة الأخيرة هذا الغائب عن وعيه.

ـ ...................................

ـ لا أُنكر ما قمت به ، لكنني ما كنت لأفعل ذلك لولا أني بالفعل أحببته.

ـ...............................

ـ لا .. لا أتملص من جريمة عظيمة ، أنت يا رب أكبر من الادعاءات التي سمعتها، باستطاعتي أن أقول لك لولا وجود يهوذا ما صلب الابن كمشيئة لك, لكن ذلك لن يحدث، أنا تماما أكبر من تلك المهاترات التي قالها يهودا أحد الملائكة العاملين لدى إبليس كما تعلم يا رب.

ـ ...........................

ـ نعم، كاد الحب الذي ملك علي لبي ولا أنكر أني سعيت إليه بكل الطرق الممنوعة أن يتدمر في الرحلة الخبيثة كما يقول هذا، فمنذ اتحدت مصلحتي مع مصلحة هذا الملاك يهود ـ أو ربما شبه لي أن هناك مصلحة بيننا ـ وحياتي صارت نارا مستعرة،

ـ .......................

ـ نعم يبدو لي أني أصبحت مثل القفازات الفارغة بدون أياد داخلها كما تقول يا الله .

ـ انتبهوا جميعا لما تقوله خطية ، ولينبه ملاك الفرصة الأخيرة أحد الملائكة الذين يمرون بالمشهد.أو شخص ما جواره يوقظه .ويقول له : إنها الآن

ـ واقصد الفتاة ـ صرحت أمامكم أنها خائفة من القوة التي تحملها.

ـ والله يا أخي لو سكت، ولم تحدث اللبس بكلامك السابق لربما قالت أنها تريد أن تعود حيث كانت لا حيثما أُريد لها أن تكون.

أنها تريد أن تترك ملاك الفرصة الأخيرة ليتخطفه مصيره المحتوم، وتنأي بنفسها كما أظن يا هذا.

لكن أين القوة المروعة التي كانت في حوزتها ؟ أين ذلك الحب الذي تحدثت عنه منذ قليل في وجود الرب ذاته ؟

يا أصدقاء.ليس من السهل واليسير التخلص من النور الملتهب المسمى مجازا الحب.

إنه كثيرٌ جدا كما تعلمون.ومن خلالها فقط . ـ فقط من خلال حب تلك الفتاة لملاك الفرصة الأخيرة ـ أصبح لوجودها ـ تلك الخطية ـ قيمة ومعني.

أصبح لاسمها معني ، وبوسعها ـ من خلال اسمها ـ أن تري وأن تشم ، بل أمكن لها أن تتكلم وتحكي وأن نستمع لها كما حدث منذ قليل.

الحب هو تلك القوي المد مرة والمروعة التي لا تُغفر أبدا ، وما قالته منذ قليل ، ولم يسمعه الملاك، سوف يكون له حساب عسير.

رغم أنني أعلم وأنتقد نفسي حين أقول:أنه في وجود الحب وفي وجوده فقط . الكبير ـ كملاكنا الطيب ـ يصير مثل الصبي.

السكران يصبح ثملا وحكيما .

السخيف يصبح غبيا من لا يضحك علي نكاته المروعة.

من الآخر.غير المؤمن بالحب كافر.فهو سفير المعجزات المخلص.

ولأجل ذلك قد عرفته جميع النساء منذ زمن بعيد ، أبعد من حكايتنا تلك . ومن أجل ذلك تستطيع ـ وحدها خطية ، أو جميع النساء أن تستنشق الرائحة النفاذة لما هو جديد في الدماء الساخنة عند الولادة.

تماما كما في الأجساد الباردة للموتى وهن يغسلن أجسادهن.

وكما بالفعل حدث مع خطية حين شمت رائحة ملاك الفرصة الأخيرة.

ولكل تلك المعارف ما إن عاد الملاك إلي جادة صوابه حتى ربتت الفتاة علي صدره وقالت له بصدق :

لقد حان وقت العمل . ، لقد قرأت في عمل اليوم المخصص لك من قبل الله أن هناك هاربا في جبل لبنان ينتظر بعض الجنيهات والليرات ليفك أسر أمه من زوجها. هيا بنا الآن إلي العمل وعندما يحين المساء ستعرف كل شئ خُفي عنك.وإلي أن يحين الأجل سوف أعمل معك.

سوف نطلق عليها خطية ملاك الفرصة الأخيرة.ولكن لنعرف أن أثمن شئ في روح تلك البنت ، التي ركبت منذ قليل علي جناح الملاك وتركا المشهد فارغا إلا من الطيور وبعض الملائكة الذين يروحون ويغدون، وذهبت به حيث جبل لبنان ـ هي الحدث، أو البديهية. والبديهية لمن لا يعرف هي أداة الغوص، أو البلورة التي تستطيع من خلالها أن تنفذ إلي الرؤية الروحية الخارقة. إنها أشبه ما تكون بالأمثال الشعبية التي تكشف جوهر الواقع.

لا .. هي ليست كذلك يا أخي.إنها الولاية الصالحة . هي ما تخبرنا حقيقة الأم بالتحديد.

لا أنت ولا هو يقول المعني صحيحا.المعني الصحيح أن الحدث أو البديهية هي ما تقول لنا أدخلوا إلي اليمين أو ادخلوا إلي اليسار. بسهولة ويسر حتى لا أطيل عليكم هي من تقول لنا ادخلوا هذا البيت بسهولة ويسر لكي نري ماذا هناك.أو لنعرف ما هو موجود لمعرفته.

ولهذا قالت له خطية ببديهية مخلوقة مع المرأة قبل أن تمتطي جناحه: علينا الذهاب الآن لنجدة المحتاجين والذين في انتظارك فالقائمة طويلة، ولسوف تمر اليوم علي مائتي ألف شخص أو يزيد، أنت فرصتهم الأخيرة للنجاة، حاول أن تركز في عملك فقط. لننس مأساتنا معا طيلة النهار، وفي المساء يكون الكلام طويلا بيننا.

أتم العمل الأول في سيمترية ودخل علي الثاني ، ثم الثالث ، لكنه أمسك بنفسه لم يعد يفرح بفرح الناجين، كما لم يعد ينتظر الفرح ـ ورغم أن الوضع يبدو غريبا بالنسبة للناجي أن يرى مع الملاك بنتا صدرها كأكواز الصنوبر، إلا أن أحدا لم يعلق علي ذلك، كما لم يشتك أحد، بل إن أحد الناجين كاد أن يلمس صدر الفتاة بعد أن أمسك بالكيس الأرجواني لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، أقول لكم أكثر، حين دخل الملاك بصحبة الفتاة علي الناجي السادس عشر تصور أن صاحبة الملاك هي حبيبته المتوفاة، وكان كل همه أن يضمها إليه، ورغم حاجته الشديدة وحاجة أسرته لما في الكيس إلا أنه كان علي استعداد تام للتنازل عنه بقبلة وحيدة علي شفاه الفتاة.

الغريب في الأمر يا أخواني أن الملاك لم ينتبه إلي كل حركات الناجي أو نظرات الذعر الواضحة في عيون خطية.بل الأغرب أن الملاك لم يعد يحس بها فوق جناحيه أثناء تجواله بين البلاد وبعضها للقيام بعمله في سيمترية شديدة. في الرحلة الأولي وأثناء ذهابه إلي الناجي في جبل لبنان كانت أقل حركة من يديها علي جناحه يكاد أن يتوقف ليسألها عن أحوالها، بل وكثير ما أبدى تخوفه عليها، لكنها طمأنته.

فاطمأن.

أطمأن حتى أنه نسى أنها معه.

حيث لا يجب أن تكون.

كما أن أحدا كما ذكرا لم يعلق علي تواجدها .

كما أن أحدا لم يعلن تضرره لمرآها علي جناح الملاك .

كما أن أحدا لم يبلغ الإله العالم العليم بذلك.