الخميس، 24 يوليو 2008

الجزء الثالث من رواية ملاك الفرصة الأخيرة

فلسطين.
هكذا نطق ملاك الفرصة الأخيرة،وهو يلفُّ في الأرض،ويُمسك رأسه بجناحيه.
هذه ـ إذن ـ المعرفة، أنْ تعرف الاسم الحقيقي لشخصٍ ما؛ فتعرف الطريق إلى حياته،وخصائصه الروحية،فمعرفة الأسماء تعني اكتساب الإدراك.
قديمًا قالوا : إذا كان المرء مهتمًا بالعثور على الأسماء، فهو على الدرب الصحيح. ليس بمقدورك العودة مرةً أخرى إلى ما كنت عليه قبل معرفتك الجديدة.
فلسطين. هذه ـ إذن ـ المعرفة،أو المعرفة إذن هي تلك النقطة التي نريد دائمًا أن نلتقي عندها.
بكل تلك المعارف القاسية والملعونة ـ أيضًا ـ عن أنفسنا.
عندها ـ فقط ـ نشعر أنِّ شيئًا ما داخلنا قد تغيّر بتلك المعرفة الجديدة، لكن شيئًا ما داخلنا ـ أيضًا ـ يقول لنا بمجرد أنْ نُمسك بالمعرفة:
احتفظْ بي داخلَك.
فقط احتفظْ بي،ولا تُلقِ بي لغيرك؛ فأنا المعرفة الحقة،
ولسوف ترى ما أفعله من أجلك.
لكن الاحتفاظ بالمعرفة في الوعي شيءٌ صعبٌ، حينما تكون هناك شراكٌ وفخاخٌ على طول الطريق .إنَّها الثوابت مثل مدِّ البحر وجزره.
بينما تلتقي الفكرة تلو الفكرة في رأس الراوي،كان الملاك يردد اسم فلسطين كثيرًًا، وهو يرى الفتاة ولا يراها. إنَّه هنا وهناك في ذات الوقت.
بينما تبدأ حركة عربة الديزل الذي يُغادر الرصيف في مدينةٍ ساحليةٍ، يهبطُ طفلٌ من بطن أمه؛ فتتلقَفه الملائكة في مدينة القدس .
كيف تكون هناك،وهنا في نفس الزمن؟!
بينما الملاك يتقلَّب ذات اليمين،وذات اليسار ممسكًا في اسم الرجل،الذي أضاعه ولا يُحسُّ بأي شيءٍ يحدث أمام عيونه،وكأنَّه صار أعمى وأطرش وأخرس.
راحتْ الفتاة تقول،وهي تهزُّ جَنَاحيه بقسوةٍ في حضرة الرب وملاك الشرِّ، وتدافع عنه في المحكمة، التي أقامها الربّ،وغاب عنها ملاك الفرصة الأخيرة رغم حضوره بجسده قائلةً:
ـ لولاي ما حدث ذلك يا رب.
كانت تقول،ولا يسمعُ.
ـ ..........................
ـ نعم. لقد أُرسِلْتُ بحقدٍ وخبثٍ؛ كي أساعد في موت فلسطين أيها الملاك، ويُمكن لي أنْ اكشف الجريمةَ كلَّها وأُبرئ ساحتك أمام الله.
ـ.....................
ـ نعم، نعم ، لقد غُرر بي من قِبَل الملاك يهود أيها الإله،وأشهد أنَّ الخديعة كانتْ من خلف عيون ملاك الفرصة الأخيرة،هذا الغائب عن وعيه الآن .
ـ ...................................
ـ لا أُنكر ما قمت به، لكنني ما كنت لأفعل ذلك لولا أني بالفعلِ أحببته.
ـ...............................
ـ لا .. لا أتملص من جريمةٍ عظيمةٍ ، أنت يا رب أكبر من الادعاءات التي سمعتها، باستطاعتي أنْ أقول لك: لولا وجود يهوذا ما صُلِب الابن كمشيئةٍ لكَ، لكن ذلك لن يحدث،أنا تمامًا أكبر من تلك المهاترات التي قالها يهودا أحد الملائكة العاملين لدى إبليس كما تعلم يا رب.
ـ ...........................
ـ نعم، كاد الحبُّ الذي ملك علىَّ لُبَّي،ولا أنكر إني سعيت إليه بكل الطرق الممنوعة، سعيت إلى أنْ يتدمّر في الرحلة الخبيثة كما يقول هذا، فمنذ اتّحَدَتْ مصلحتي مع مصلحة هذا الملاك يهود ـ أو ربما شُبّه لي أنَّ هناك مصلحة بيننا ـ وحياتي صارتْ نارًا مستعرةً.
ـ .......................
ـ نعم يبدو لي أني أصبحت مثل القفازات الفارغة بدون أيادٍ داخلها كما تقول يا الله .
ـ انتبهوا جميعًا لما تقوله خطية، ولينبّه ملاكَ الفرصة الأخيرة أحدُ الملائكة، الذين يمرّون بالمشهد،أو شخصٌ ما جواره يُوقظه ،ويقول له :
إنها الآن ـ وأقصد الفتاة ـ صرحت أمامكم أنها خائفة من القوة التي تحملها.
ـ والله يا أخي لو تسكت،ولا تُحدثُ اللبس بكلامك السابق لربما قالتْ إنها تريد أنْ تعود حيث كانتْ،لا حيث أُريد لها أن تكون.
إنها تريد أنْ تترك ملاك الفرصة الأخيرة؛ ليتخطفه مصيره المحتوم، وتنأى بنفسها كما أظن يا هذا.
لكن أين القوة المروعة،التي كانتْ في حوزتها؟!
أين ذلك الحُبُّ،الذي تحدثتْ عنه منذ قليلٍ في وجود الربِّ ذاته؟!
يا أصدقاء،ليس من السهل واليسير التخلص من النور الملتهب المُسمَّى مجازًا الحُبُّ.
إنَّه كثيرٌ جدًا، كما تعلمون،ومن خلالِها فقط .
فقط من خلال حبِّ تلك الفتاة لملاك الفرصة الأخيرة، أصبح لوجودها ـ تلك الخطية ـ قيمةٌ ومعنى .
أصبحَ لاسمها معنى،وبوسعهاـ من خلال اسمها ـ أنْ ترى وأنْ تشمَّ؛
بل أمكن لها أنْ تتكلم وتحكي، وأنْ نستمع لها،كما حدث منذ قليلٍ.
الحُبُّ هو تلك القوى المدمرة والمروعة، التي لا تُغفرُ أبدًا.
وما قالتْه منذ قليلٍ،ولم يسمعْه الملاك، سوف يكون له حسابٌ عسيرٌ.
رغم إنني أعلم، وأنتقد نفسي حين أقول:
ـ إنَّه في وجود الحُبِّ، وفي وجوده فقط الكبيرـ كملاكنا الطيب ـ يصير مثل الصّبي.
السكران يصير ثَمِلاً وحكيمًا .
السخيف يُصبح،غبيًا مَن لا يضحكُ على نكاته المروعة.
من الآخر،غير المؤمن بالحُبِّ كافرٌ؛ فهو سفير المعجزات المخلص.
ولأجلِ ذلك قد عَرِفتْه جميع النساء منذ زمنٍ بعيدٍ، أبعد من حكايتِنا تلك.
ومن أجل ذلك تستطيع ـ وحدَها خطية ـ أو جميع النساء أنْ تستنشق الرائحةَ النفاذة لما هو جديدٌ في الدماء الساخنة عند الولادة.
تمامًا كما في الأجساد الباردة للموتى .
وكما بالفعل حدث مع خطيةَ، حين شمّتْ رائحة ملاك الفرصة الأخيرة.
ولكل تلك المعارف ما إنْ عاد الملاك إلى جادة صوابِه، حتى ربتتْ الفتاة على صدره، وقالتْ له بصدقٍ :
حان وقت العمل. لقد قرأت في عمل اليوم المخصص لك من قبل الله أنَّ هناك هاربًا في جبل لبنان ينتظر بعض الجنيهات والليرات؛ ليفكَّ أسر أمه من زوجها.
هيا بنا الآن إلى العمل وعندما يحين المساء،ستعرف كل شيء خُفي عنك.
وإلى أنْ يحين الأجل سوف أعمل معك.
* * *
سوف نُطلِق عليها خطية ملاك الفرصة الأخيرة،ولكن،لنعرف أنَّ أثمن شئٍ في روح تلك البنت، التي ركبت منذ قليلٍ على جناحِ الملاك،وتركا المشهد فارغًا إلا من الطيور وبعض الملائكة،الذين يروحون ويغدون،وذهبتْ به حيث جبل لبنان،هي الحدسُ أو البديهيةُ.
والبديهيةُ لمَن لا يعرفُ هي أداةُ الغوص، أو البلورة التي تستطيع من خلالها أنْ تَنفُذ إلى الرؤية الروحية الخارقة. إنَّها أشبه ما تكون بالأمثال الشعبية، التي تكشف جوهر الواقع.
لا ،هي ليستْ كذلك يا أخي.
إنها الولايةُ الصالحةُ.
هي ما تخبرنا حقيقة الأمر بالتحديد.
لا أنتَ ولا هو تقولان المعنى صحيحًا.المعني الصحيح أنَّ الحدس أو البديهية هي ما تقول لنا: ادخلوا إلى اليمين،أو ادخلوا إلى اليسار،بسهولةٍ ويسرٍ. حتى لا أطيلُ عليكم هي مَن تقول لنا ادخلوا هذا البيت بسهولةٍ ويسرٍ؛ كي نرى ماذا هناك؛أو لنعرف ما هو موجود،ٌ لمعرفته.
ولهذا قالتْ له خطية ببديهيةٍ مخلوقةٍ مع المرأة قبل أنْ تمتطي جَنَاحه:
ـ علينا الذهاب الآن، لنجدة المحتاجين والذين في انتظارك، فالقائمة طويلةٌ، ولسوف تمرَّ اليوم على مائتي ألف شخصٍ أو يزيد. أنت فرصتُهم الأخيرةُ للنجاة.حاولْ أنْ تُركّز في عملك فقط . لننس مأساتَنا معًا طيلة النهار،وفي المساء يكون الكلام طويلاً بيننا.
أتمَّ العمل الأول في سيمتريةٍ ودخل على الثاني، ثُمّ الثالث، لكنه أمسك بنفسه لمْ يعدْ يفرح بفَرَح الناجين،كما لم يعدْ ينتظره، ورغم أنَّ الوضع يبدو غريبًا بالنسبة للناجي أن يرى مع الملاكِ بنتًا ،صدرُها كأكواز الصنوبر إلا أنَّ أحدًا لم يُعلّقْ على ذلك، كما لم يشتك أحدٌ، بل إنِّ أحد الناجين كاد أن يلمس صدر الفتاة بعد أنْ أمسك بالكيس الأرجواني،لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
أقول لكم أكثر،حين دخل الملاك بصحبة الفتاة على الناجي السادس عشر تصوّر أنَّ صاحبةَ الملاك هي حبيبتُه المتوفاةُ، وكان كلّ همِّه أن يضمها إليه،ورغم حاجته الشديدة وحاجة أسرته لما في الكيس إلا أنَّه كان على استعدادٍ تامٍ للتنازل عنه بقبلةٍ وحيدةٍ على شفاه الفتاة التي تخيلها حبيبته.
الغريب في الأمرِ يا أخواني أنَّ الملاك لم ينتبه إلى كل حركات الناجي أو نظرات الذعرِ الواضحة في عيون خطية؛ بل الأغرب أنَّ الملاك لم يعدْ يُحِسُّ بها فوق جَنَاحيه أثناء تجواله بين البلاد وبعضها؛ للقيام بعمله في سيمتريةٍ شديدةٍ.
في الرحلة الأولى،وأثناء ذهابِه إلى الناجي في جبل لبنان،كانت أقلُّ حركةٍ من يديها على جَنَاحيه يكاد أنْ يتوقف؛ ليسألها عن أحوالها؛ بل وكثيرًا ما أبدى تخوّفه عليها،لكنَّها طمأنتْه.
فاطمأنَّ.
اطمأنَّ، حتى أنه نَسِى أنَّها معه.
حيث لا يجبُ أنْ تكون.
كما أنَّ أحدًا،كما ذُكِر لم يُعلّقْ على تواجدها .
كما أنَّ أحدًا لم يُعلنْ تضرره لمرآها على جَنَاحِ الملاك.
كما أنَّ أحدًا لم يُبلغْ الإله العالم العليم بذلك.
* * *

هناك تعليقان (2):

إبـراهيم ... يقول...

أستاذ(سعيد) ، وأترك تعليقًا هنا أيضًا ، قرأت حتى الجزء الخـامس من الرواية، وفي انتظـار باقي الأجزاء، أو أن ألقاك اليوم ،،،، هنـــــــــاك
.
.
خالص تحياتي

حمدي عابدين يقول...

يا عم سعيد كيف حالك, وحال بنت الوز, وأمها, يا أيها الأعزاء أنتظر كتاباتكم دائما, لكني أريد أن أقرأ عملا كاملا, أريد أن أقرأ لتكتمل الوجبة الممتعة, لا أحب أن أقرأ أعمالا ناقصة.
أرجو يا سعيد أن ترسل لي الممكن من كتاباتك علي ميلي bareedm.abdeen2@gmail.com اريد أن أقرا ملاك الفرصة الأخيرة, أرسل لي نسخة ألكترونية منها, كما أرجو أن ترسل لي بعض الدراسات حولها وحول الرواية الأولي
فضلا عن أعمال هويدا طبعا, والدراسات الموجودة لديها عن أعمالها, الاعمال النقدية سوف أنشرها في ولف خاص لها, وملف خاص لك, في مدونة "مقهي عائم" النقدية.
آخيرا لك خالص تحياتي
حمدي